[size=18]ما هـي الفلسفة ؟
إن الإجابة على السؤال ما هي الفلسفة ؟ ليست إجابة سهلة، لأن طرح السؤال إشعار بالتفلسف ودخول في حبال الفلسفة. فكما يقول هيدغر Heidegger إن هدف السؤال "هو الولوج داخل الفلسفة والإقامة فيها والتصرف وفقها، أي التفلسف" ؛ فالسؤال يحتم علينا أن "نتحرك داخل الفلسفة، عوض أن ندور حولها"، لأن السؤال ما هي الفلسفة؟ من طبيعته أنه سؤال ماهوي، وسؤال إشكالي. أضف إلى ذلك أن الإجابة المباشرة على السؤال ما هي الفلسفة؟ تعترضها عدة صعوبات، بعضها يرجع إلى غير المتفلسفة، وبعضها يرجع إلى الفلاسفة أنفسهم:
فالأوائل تصدر عنهم آراء متضاربة، بعضهم يصف الفلسفة بأنها ثرثرة وكلام فارغ، وبعضهم يعتبرها تفكيرا في الغيبيات، وبعضهم يعتبرها آراء وهمية، إلى غير ذلك من النعوت القائمة على الأفكار القبلية، والمسبقة، التي لا تستند إلى علم بالموضوع..
أما الصعوبات التي يخلقها الفلاسفة فإنها صعوبات تكمن في عدم إجماعهم على تعريف محدد. فحينما يعرف الفيلسوف الفلسفة، إنما يعرف فلسفته الخاصة. وهذا ما يجعلنا أمام زخم هائل من التعاريف قد يصل عددها إلى عدد الفلاسفة أنفسهم، وذلك يرجع إلى عوامل أربعة رئيسة:
ا) غياب موضوع محدد: فالفلسفة لا تدرس موضوعا بعينه. فكل موضوع صالح لكي يجلب اهتمامات الفلاسفة مادام يتسم بطابع الإشكالية. لذا يقال إن الفلسفة تدرس كل شيء بما في ذلك نفسها.
ب) غياب منهج موحد: لكل فيلسوف منهجه الخاص، يعتقد أنه موصله إلى اليقين. وقد يتأثر الفيلسوف ببعض العلوم فيقتبس منها مناهجها (ديكارت مثلا). لكن، في غالب الأحيان الفلاسفة مناهجهم الخاصة (المنهج التوليدي عند سقراط مثلا).
ج) ارتباط الفلسفة بالعصر: إن الفيلسوف مرتبط بقضايا زمانه وعصره، هي التي تملي عليه المواضيع والإشكاليات، وسبل التفكير، وطبيعة المعارف التي سيستخدمها.. ولما كان عصر أفلاطون ليس هو عصر ديكارت، لابد أن نجد اختلافا بين الفيلسوفين سواء في تعريف الفلسفة أو تحديد أهدافها ..إلخ.
د) قناعات الفيلسوف الخاصة: يمكن أحيانا أن ينتمي الفلاسفة إلى نفس العصر (الطبيعيون مثلا) أو لعصور متقاربة، لكن هذا لا يمنع وجود الاختلاف بينهم. لأن لكل فيلسوف قناعاته الفردية تكون مسؤولة عن تميزه وتفرده، واتسام فلسفته بالجدة والأصالة.
إن الإشكالية التي تضعها الفلسفة من خلال تنوعها، تدفعنا إلى طرح السؤال التالي: ما قيمة الفلسفة؟ يجب أولا أن نعلم أن الفلسفة لا تهتم بالقضايا التي تدخل ضمن اهتمامات العلم، بل – كما يقول برتراند راسل B. Russel – "إن موضوعا ما يكف عن الانتماء إلى الفلسفة ويصبح موضوع علم قائم بذاته، بمجرد ما يكون تحقيق معرفة مضبوطة ومحددة عنه أمرا ممكنا." لكن، هل فسر العلم كل شيء ؟ هل وصلت المعرفة العلمية إلى أوجها؟
إن استقلال العلم عن الفلسفة مكنه من أن يحقق تطورا سريعا؛ لكن، ابتداء من القرن التاسع عشر ظهرت في العلم قضايا، وإشكاليات، وأزمات (كأزمة البداهة، وأزمة التجربة مثلا)، أضحى العلم إثرها في حاجة إلى الفلسفة قصد القيام بدراسة نقدية لمبادئه، ومناهجه واستباق نتائجه. وهذا ما أدى إلى ظهور نوع جديد من فلسفة العلوم يسمى "الإبستيمولوجيا".
قديما كانت المواضيع التقليدية تنحصر في دراسة الوجود (الأنطولوجيا)، ودراسة القيم (الأكسيولوجيا)، ودراسة المعرفة (الغنوسيولوجيا). وهذا لا يعني أن هذه المواضيع أصبحت متجاوزة، لأن العلم لم يقدم كل الحلول، ولأن العالم سيظل لغزا محيرا للإنسان.
قيمة الفلسفة تكمن - إذن - في كونها تستطيع أن تدرس قضايا يعجز العلم عن حلها، بل قد يحتاج إليها العلم لتفسير تحولاته وأزماته. كما أن القضايا الفلسفية قضايا أكثر عمومية كالقضايا المصيرية المرتبطة بالوجود الإنساني، كالموت والحرية ..إلخ. وتكمن قيمة الفلسفة كذلك، في كونها فكر إشكالي يرفض ويحارب الاستسلام للأفكار القبلية والاعتيادية؛ لأنها تخضع كل شيء للنقد، وتضع كل شيء موضع تساؤل. ومن ثمة يتبين أن قيمة الفلسفة لا يمكن حصرها في جانب معين، إنها تظهر بقدر ما تنجح في تحويل الموضوعات إلى قضايا إشكالية.
إذا كانت قيمة الفلسفة كذلك، فمن أين نبدأ التفلسف؟ يؤكد إدموند هوسرل E. Husserl أن التفلسف يبدأ بالرجوع إلى الذات قصد تحطيم المعارف المسلم بها والجاهزة، والتي يمكنها أن تكون عائقا إببستيمولوجيا في بلوغ الحقيقة. فعلى الفيلسوف أن ينشئ فلسفة خاصة، قائمة على حدوسه المطلقة، وعلى أسس حجاجية وبرهانية ومنهجية.
وعليه كذلك أن ينزع بفلسفته نحو الكونية. لكن عليه أن يتحلى دائما بالتواضع المعرفي، وأن يؤمن باستمرار بحاجته إلى طلب المزيد من المعرفة. من هذا المنطلق يكون الشك المنهجي – الذي أسسه ديكارت – أسوة لكل فيلسوف مبتدئ، وبهذه الطريقة وحدها تولد الفلسفة.
من خلال ما تقدم، يمكن أن نستشف، أن صعوبة تعريف الفلسفة لا تعني بالضرورة، أن الفلسفة فكر متعال عن الواقع، أو فكر يصعب إدراكه وتمثله. إنما يعني ذلك فقط أن للفلسفة بعض الخصوصيات التي تميزها عن غيرها،وهذه الخصوصيات يمكن اعتبارها في ذات الوقت آليات مشتركة بين سائر الفلاسفة. ويمكن تلخيص بعضها إجمالا في ما يلي:
النسقية: إن مفهوم النسق يفيد النظام والتأليف، ويشير إلى وجود منظومة من العناصر. ومن هذا المنطلق، نقول إن الفلسفة ليست فكرا مرتجلا، وليست شطحات فكرية لا يعرف مصدرها، وليست شذرات من الآراء من هنا وهنالك؛ وإنما هي تفكير منظم، وبنية من الأفكار والنظريات. فقد يتناول الفيلسوف موضوعات متعددة، كالوجود، والمعرفة، والقيم، لكن هذا لا يمنع من اتسام فلسفته بالنظام والتدرج، ولاحتكام إلى صرامة منطقية.
العقلانية والتأمل: إن الفلسفة فكر عقلاني تأملي باعتبارها فكرا بعيدا عن الارتجال، وخصوصا لأن العقل وحده يستطيع أن يبحث في القضايا ذات الطبيعة الفلسفية. كما أن الفلسفة تفكير عميق يبتعد عن العواطف الوجدانية حيث يقول هيدغر Heidegger: "فالعواطف، لا تنتمي إلى الفلسفة، والعواطف، كما يقال، هي شيء لا عقلي. والفلسفة، على العكس من ذلك، ليست شيئا عقليا فحسب، بل المدبر الحقيقي للعقل."
الشمولية: إن الفلسفة - على خلاف العلم – تترفع عن الجزئيات، حيث لا تهتم إلا بالقضايا الأكثر عمومية، وتتسم بالتناول الكلي للموضوعات..
التجريد: قد تكون الفلسفة وليدة واقع معين، لكنها تحتفظ لنفسها بالمقاربة التجريدية،لأنها ابتعاد عن الارتباط العضوي والمباشر بالمحسوس والجزئي، خصوصا وأنها تسعى إلى بناء معارف ذات طابع شمولي وعام.
النقد: إن الفلسفة فكر نقدي لأنها إعادة نظر متواصلة، خصوصا وأنها لا تؤمن بوجود معارف ثابتة ومطلقة. كما أنها تجاوز للاعتقادات الساذجة والبديهية. لذا تتسم بالشك القبلي في وجود معرفة نهائية.
التساؤل: إن الفلسفة فكر تساؤلي باعتبارها فكرا إشكاليا نقديا. فالتفكير الفلسفي يجعل من كل شيء موضوع تساؤل ومناقشة وسجال. لذا قال كارل ياسبرس Jaspers : "الأسئلة في الفلسفة أهم من الإجابات عليها، وكل جواب يصبح بدوره سؤالا جديدا".
إن الخاصية الأخيرة تدفعنا إلى أن نتساءل : ما هي طبيعة السؤال الفلسفي؟ وما هي خصوصياته؟
يحددها ألان جورانفيل A.Juraville في ما يلي:
(ا) إن السؤال الفلسفي سؤال قصدي، لأنه يروم بناء معرفة تتسم بالشمولية والإطلاقية.
(ب) إن السؤال الفلسفي سؤال يتضمن شكا قبليا في الجواب، على اعتبار أن ليست هناك معرفة جاهزة ونهائية.
(ج) إن السؤال الفلسفي يوجه بالخصوص إلى أولئك الذين يعتقدون امتلاك الحقيقة (سلوك سقراط مثلا)، ليظهر لهم دونية معرفتهم. فالفلسفة فكر يجند نفسه ضد الوثوقية (الدوغمائية).
(د) إن السؤال الفلسفي تساؤل، باعتباره سؤالا يتضمن في الواقع سلسلة متدرجة من الأسئلة: فكل سؤال يستدعي سؤالا آخر؛ وكل سؤال هو بداية لتساؤل جديد (كارل ياسبرس).
إن طبيعة السؤال تتحدد وترتبط بطبيعة الجواب ، وتفسر لماذا تتعدد الخطابات الفلسفية. إن السؤال الفلسفي – في العمق – ليس إلا إشعارا بحدوث الدهشة لدى المتسائل. وكما قال أرسطو : " إن الدهشة هي التي دفعت الناس إلى التفلسف". فالإنسان هو أكثر الموجودات دهشة، لأن الدهشة تتطلب درجة عالية من العقل. إلا أن هناك اختلافا بين "الدهشة العلمية" و"الدهشة الفلسفية" ؛ فكما يرى شوبنهاور Schopenhauer : دهشة الفيلسوف هي دهشة أمام الأمور الاعتيادية والتي تكتسي حلة البداهة، وهي دهشة أمام الأشياء ذات الصبغة الأكثر عمومية، وجعلها موضوع التساؤل، وتحويلها إلى قضايا إشكالية. أما دهشة العالم، فهي دهشة أمام أمور جزئية نادرة ومنتقاة، وهي سعي لربطها بقضايا معروفة لديه سابقا، أو بتعبير أدق هي إرجاع المجهول إلى المعلوم.
وما دامت هناك أمور تؤلم الإنسان كالمرض والموت، والبؤس، والشقاء.. وما دام الوجود الإنساني ووجود العالم يشكلان لغزا محيرا فستستمر الدهشة الفلسفية وسيستمر التفلسف.
الفلـسفة والحيـاة
إن الفلسفة شأنها شأن أشكال الوعي البشري، فهي لصيقة بقضايا المجتمع وهموم العصر الذي أفرزها ؛ وقد قال ماركس Marx في هذا الصدد : "ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل إن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم".
إن الفلسفة – إذن – ليست فكرا مستلبا أو متعاليا عن الواقع الاجتماعي وإنما هي خلاصة عصرها، وتاريخ الفلسفة حافل بالنماذج التي تؤكد ذلك: إن تفكير أفلاطون في "مدينة مثالية" (كتاب الجمهورية) لم يكن إلا محاولة منه لإصلاح المجتمع اليوناني الذي أفسده السفسطائيون. وما تفكير الفارابي في "مدينة فاضلة" إلا محاولة لإرجاع الدولة الإسلامية إلى أمجادها البائدة.
لكن الفلسفة تختلف عن السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا. لأنها ليست دراسة علمية موضوعية لقضايا مجتمع معين ؛ وليست مجرد تشخيص لبعض الأمراض الاجتماعية. إن الطابع العام والشمولي للفلسفة يأبى ذلك. إنها لا تدرس ما هو كائن إلا في إطار ما ينبغي أن يكون. إن طموح الفيلسوف إلى تحقيق الكونية يجعله يترفع عن أن يصبح مجرد مصلح اجتماعي، أو أن يكون على الأكثر عالما اجتماعيا فرضته ظرفية تاريخية. فما هو السبب – إذن – في اهتمام الفيلسوف بقضايا الحياة والمجتمع؟
يكمن جواب ذلك في عاملين متداخلين، أولهما أن الفلسفة بحث عن الحقيقة ؛ والأجوبة التي تقترحها، تبين أنها فحص مثابر وراء الإسهام المباشر في حل المشاكل الإنسانية مهما كانت فرص النجاح ضعيفة. وهنا يبزغ العامل الثاني، والذي يتجلى في الأهمية القصوى التي توليها الفلسفة للإنسان وتعتبره مركز اهتماماتها، حيث لا تهتم بالقضايا إلا بقدر ما ترتبط بالإنسان، لذا قال فيورباخ L. Feurbach إن كل فلسفة تؤسس خارج الإنسان وبمعزل عنه لا يمكن اعتبارها فلسفة..
انطلاقا مما تقدم نطرح السؤال التالي : هل الفلسفة إلزام أم إلتزام؟ يقول ديكارت : "لأن يحيى المرء بدون تفلسف هو حقا كمن يظل مغمضا عينيه لا يحاول أن يفتحهما: والتلذذ برؤية كل ما سيكشفه البصر لا يمكن أن يقارن بالرضى الذي ينال من معرفة الأشياء التي تنكشف لنا بالفلسفة". يتأكد إذن – من خلال هذا القول- أن الفلسفة ليست ترفا فكريا وإنما هي ضرورة. ولعل ضرورتها تتجلى في الانسياب الفكري الذي تطلبه؛ وفي رفضها كل حدود للعقل. إن الطابع الإشكالي والنقدي للفلسفة يحتمان عليها إعادة النظر في كل شيء، وفي كل قضايا الحياة، وبالتالي إخضاعها للمساءلة.
والفلسفة، كذلك، التزام لأنها اندماج وانصهار في كل ما من شأنه أن يساهم في سيرورة الحياة، وبالتالي الانطلاق بها إلى فضاء أرحب وأوسع. ومن هذا المنطلق نفهم لماذا تتجند الفلسفة ضد جميع ضروب العنف محاولة منها نشر ثقافة التسامح والانفتاح على الغير. لأن العنف يعتبر من المسارات الخسيسة التي بإمكانها أن تجهض حركية الحياة، وتقتضي على طموح الإنسان في بلوغ غايات نبيلة. فالفلسفة تحارب العنف لأنه ليس مجرد سلوك فردي ينحصر في أخذ ثأر أو إنزال عقوبة أو قصاص؛ ولكنها تحاربه لأن العنف – كما يقول إيف ميشو Y. Michaud – يوجد "عندما يحطم واحد أو عدد من الفاعلين شخصا آخر، مباشرة، أو بصفة غير مباشرة، دفعة واحدة أو بالتدريج، أو يمسهم في كيانهم الجسمي أو النفسي، في ممتلكاتهم، أو في انتماءاتهم الثقافية أو الرمزية المختلفة. ليس العنف فقط مسألة جروح أو قتل، إذ يمكن أن يكون التحطيم سيكولوجيا، بواسطة التعذيب أو النفي، أو الإيذاء في الممتلكات، أو يلحق لغة الجماعة، أو ثقافتها أو معتقداتها، أو يعني الحرمان من العمل ..إلخ".
بناء على هذا، نستطيع القول إن الفيلسوف ضد العنف لأنه، كما يعتقد إريك فايل E. Weil، سلوك لا عقلي يهدف إلى النيل من كرامة الإنسان وبالتالي النيل من إنسانيته. إن الفلسفة ضد العنف لأنه يقوم على كل الأفكار السلبية التي تحاربها كالتسلط، والظلم، والبؤس والشقاء والحرمان ..إلخ.
وعلى الفلسفة أن تتنبه للعنف لأن خطورته، اليوم، تكمن في أنه سلوك ممنهج يهدف إلى إخفاء أبعاده وخلفياته وبالتالي إخفاء أساليبه وآلياته، أو كما يقول إيف ميشو : "… إن ما يميز العنف المعاصر عن أشكال العنف التي عرفها التاريخ، هو التدخل المزدوج للتكنولوجيا والعقلنة في إنتاجه". ولعل ذلك ما يجعلنا نقول إن العنف أصبح اليوم سلوكا لا عقليا أنتجه العقل.
بعد أن بحثنا في ماهية الفلسفة، وبعد أن تعرفنا عن العلاقة الفيلسوف بالحياة والمجتمع، يتاح لنا الآن أن نتعرف عن شخصية الفيلسوف. فمن هو الفيلسوف؟ وما طبيعة شخصيته؟
إنه لايمكن أن نتمثل صورة الفيلسوف خارج خصوصيات الفلسفة. ومع ذلك نؤكد أن الفيلسوف إنسان دائب التساؤل، نظرا لوجود عوامل عدة ومختلفة. فالفيلسوف إنسان يشعر دائما بفقر إلى المزيد من المعرفة. ولا غرابة في ذلك فأول من أطلق على نفسه فيلسوف كان يقصد هذا بالضبط : حيث رفض فيتاغورس أن يدعى حكيما لأن الحكمة تعني امتلاك الحقيقة، فارتأى أن التعبير الأنسب والأصدق هو أن يقال عنه إنه فيلسوف (محب الحكمة)، أي مجرد إنسان يتوق إلى المعرفة وليس مالكا لها. ومن هذا المنطلق نستطيع أن نفهم سلوك سقراط من وجهين: فإحساسه بدونية معرفته جعله يرحل إلى رجال الدولة والشعراء ..، باحثا عن الحقيقة، لكن الوجه الثاني للصورة يتجلى في أن سقراط ذهب إليهم بشك قبلي ليحطم عندهم ذلك الاعتقاد الدوغمائي بامتلاك الحقيقة، وهذا فعلا ما توصل إليه سقراط حينما وجد أن دونية معرفته تفوق بكثير معرفتهم.
فالفيلسوف، إذا، شخصية لا تكتفي بالإجابات الارتجالية والسطحية والساذجة. إنه إنسان يرفض الاعتقاد بوجود أفكار جاهزة ومعارف مسلم بها. إنه، كذلك، رجل سجال ونقد، رجل إقناع واقتناع، يقارع الحجة بالحجة، علما بأنه يؤمن بالاختلاف. ومن ثمة فإنه ضد جميع أشكال العنف؛ خصوصا الإرهاب الفكري الذي يمارسه كل متسلط دوغمائي، علاوة على أصناف القهر الجسدية والنفسية. هكذا نجد ماركس – مثلا – جند نفسه لمحاربة الاستغلال الطبقي، ونجد فلاسفة الأنوار جندوا أنفسهم لمحاربة هيمنة الكنيسة، وتسلط طبقة النبلاء.
إن الفيلسوف إنسان ملتزم بقضايا عصره، وبهموم المجتمع، وبرغبة الإنسان الدائمة نحو الحرية والانعتاق. وهذا ما يحطم الاعتقاد الساذج، والشائع، الذي يصور الفيلسوف في صورة إنسان زاهد في الحياة، وبالتالي إنسان يعيش على هامش المجتمع.
صحيح أن للفيلسوف آراء خاصة، وقناعات متميزة بفردانية أكيدة، وهذا راجع إلى طبيعة التفكير الفلسفي الذي يتخذ شكل تمثلات خاصة ؛ إلا أن الفيلسوف إنسان صادق مع نفسه أولا، وصادق مع الآخرين ثانيا. وصدقه هو الذي يجعله ينزع بأفكاره نحو الكونية، فيدعو الناس إلى مشاطرته أفكاره. وسعادة الفيلسوف المثلى تتجلى في الوصول إلى المعرفة لذاتها، أي أنه يحاول باستمرار أن يتخلص من البعد الدوغمائي للمعرفة.
رهـانات الفلسـفة
إن النظرة البرغمائية إلى العلم قد تحجب عنا أهمية الفلسفة. حيث يبدو أنه كلما تقدم العلم، إلا وأحكم الإنسان سيطرته على الطبيعة، وكلما تقدم العلم إلا وصاحبه تقدم تكنولوجي ملحوظ، يساهم، بدوره، في إدخال الرفاهية على حياة الإنسان. فكيف تستطيع – إذن – أن تحتفظ الفلسفة بمكانتها كفكر ضروري؟
إن الفلسفة تراهن على طبيعة المواضيع التي تعالجها، خصوصا تلك التي يصبح فيها العلم عاجزا عن تقديم نتائج. وتراهن كذلك على أزمات العلم الداخلية (التي عرفها – ويعرفها – ابتداء من القرن 19) والتي تؤكد حاجة العلم ذاته إلى تدخل الفلسفة قصد فهم وتفسير، ومعالجة مشاكله، وإشكالياته الإبستيمولوجية. كما أن العلم – دون الفلسفة – يتحول إلى تكنولوجيا مدمرة، وإلى فكر دوغمائي لا يراعي القيم الأخلاقية، والاعتبارات الإنسانية (ظاهرة الاستنساخ مثلا).
كما تراهن الفلسفة على الانعكاسات السلبية للتقدم التكنولوجي. ونذكر منها – على سبيل المثال – وضعية الاستلاب التي يعرفها لإنسان داخل عملية الإنتاج. أضف، إلى ذلك تشيؤ العلاقات الإنسانية: فلإنسان أصبح داخل علاقات الإنتاج – المرتكزة على المردودية فقط – يعيش وضعية استلاب لا تراعى فيها إنسانيته لأنه أصبح مجرد أداة مسخرة للرفع من وتيرة الإنتاج وجودته، وممكن الاستغناء عنه في أي وقت. فأصبح الإنسان مجرد شيء، يقيم (بفتح الياء الثانية) في إطار علاقاته بأشياء أخرى ( الآلات، المعامل، الأبناك، البورصة ..إلخ).
إن الفلسفة إزاء هذا، يمكن أن تنبه إلى كارثة ، أو تقدم حلولا قد لا تفهم في حينها نظرا لطابعها الكوني والشمولي؛ فتراهن في مقابل ذلك على الزمن والتاريخ اللذين يؤكدان مصداقية أفكارها. كما تراهن الفلسفة في تطورها، على تأثيث نفسها من الداخل، من خلال طرحها الدائم للسؤال "ما هي الفلسفة ؟" حتى تتلاءم تمثلاتها مع قضايا المجتمع، وسعيا منها إلى الحفاظ على إنسانية الإنسان والدفاع عن كرامته.[/size]
إن الإجابة على السؤال ما هي الفلسفة ؟ ليست إجابة سهلة، لأن طرح السؤال إشعار بالتفلسف ودخول في حبال الفلسفة. فكما يقول هيدغر Heidegger إن هدف السؤال "هو الولوج داخل الفلسفة والإقامة فيها والتصرف وفقها، أي التفلسف" ؛ فالسؤال يحتم علينا أن "نتحرك داخل الفلسفة، عوض أن ندور حولها"، لأن السؤال ما هي الفلسفة؟ من طبيعته أنه سؤال ماهوي، وسؤال إشكالي. أضف إلى ذلك أن الإجابة المباشرة على السؤال ما هي الفلسفة؟ تعترضها عدة صعوبات، بعضها يرجع إلى غير المتفلسفة، وبعضها يرجع إلى الفلاسفة أنفسهم:
فالأوائل تصدر عنهم آراء متضاربة، بعضهم يصف الفلسفة بأنها ثرثرة وكلام فارغ، وبعضهم يعتبرها تفكيرا في الغيبيات، وبعضهم يعتبرها آراء وهمية، إلى غير ذلك من النعوت القائمة على الأفكار القبلية، والمسبقة، التي لا تستند إلى علم بالموضوع..
أما الصعوبات التي يخلقها الفلاسفة فإنها صعوبات تكمن في عدم إجماعهم على تعريف محدد. فحينما يعرف الفيلسوف الفلسفة، إنما يعرف فلسفته الخاصة. وهذا ما يجعلنا أمام زخم هائل من التعاريف قد يصل عددها إلى عدد الفلاسفة أنفسهم، وذلك يرجع إلى عوامل أربعة رئيسة:
ا) غياب موضوع محدد: فالفلسفة لا تدرس موضوعا بعينه. فكل موضوع صالح لكي يجلب اهتمامات الفلاسفة مادام يتسم بطابع الإشكالية. لذا يقال إن الفلسفة تدرس كل شيء بما في ذلك نفسها.
ب) غياب منهج موحد: لكل فيلسوف منهجه الخاص، يعتقد أنه موصله إلى اليقين. وقد يتأثر الفيلسوف ببعض العلوم فيقتبس منها مناهجها (ديكارت مثلا). لكن، في غالب الأحيان الفلاسفة مناهجهم الخاصة (المنهج التوليدي عند سقراط مثلا).
ج) ارتباط الفلسفة بالعصر: إن الفيلسوف مرتبط بقضايا زمانه وعصره، هي التي تملي عليه المواضيع والإشكاليات، وسبل التفكير، وطبيعة المعارف التي سيستخدمها.. ولما كان عصر أفلاطون ليس هو عصر ديكارت، لابد أن نجد اختلافا بين الفيلسوفين سواء في تعريف الفلسفة أو تحديد أهدافها ..إلخ.
د) قناعات الفيلسوف الخاصة: يمكن أحيانا أن ينتمي الفلاسفة إلى نفس العصر (الطبيعيون مثلا) أو لعصور متقاربة، لكن هذا لا يمنع وجود الاختلاف بينهم. لأن لكل فيلسوف قناعاته الفردية تكون مسؤولة عن تميزه وتفرده، واتسام فلسفته بالجدة والأصالة.
إن الإشكالية التي تضعها الفلسفة من خلال تنوعها، تدفعنا إلى طرح السؤال التالي: ما قيمة الفلسفة؟ يجب أولا أن نعلم أن الفلسفة لا تهتم بالقضايا التي تدخل ضمن اهتمامات العلم، بل – كما يقول برتراند راسل B. Russel – "إن موضوعا ما يكف عن الانتماء إلى الفلسفة ويصبح موضوع علم قائم بذاته، بمجرد ما يكون تحقيق معرفة مضبوطة ومحددة عنه أمرا ممكنا." لكن، هل فسر العلم كل شيء ؟ هل وصلت المعرفة العلمية إلى أوجها؟
إن استقلال العلم عن الفلسفة مكنه من أن يحقق تطورا سريعا؛ لكن، ابتداء من القرن التاسع عشر ظهرت في العلم قضايا، وإشكاليات، وأزمات (كأزمة البداهة، وأزمة التجربة مثلا)، أضحى العلم إثرها في حاجة إلى الفلسفة قصد القيام بدراسة نقدية لمبادئه، ومناهجه واستباق نتائجه. وهذا ما أدى إلى ظهور نوع جديد من فلسفة العلوم يسمى "الإبستيمولوجيا".
قديما كانت المواضيع التقليدية تنحصر في دراسة الوجود (الأنطولوجيا)، ودراسة القيم (الأكسيولوجيا)، ودراسة المعرفة (الغنوسيولوجيا). وهذا لا يعني أن هذه المواضيع أصبحت متجاوزة، لأن العلم لم يقدم كل الحلول، ولأن العالم سيظل لغزا محيرا للإنسان.
قيمة الفلسفة تكمن - إذن - في كونها تستطيع أن تدرس قضايا يعجز العلم عن حلها، بل قد يحتاج إليها العلم لتفسير تحولاته وأزماته. كما أن القضايا الفلسفية قضايا أكثر عمومية كالقضايا المصيرية المرتبطة بالوجود الإنساني، كالموت والحرية ..إلخ. وتكمن قيمة الفلسفة كذلك، في كونها فكر إشكالي يرفض ويحارب الاستسلام للأفكار القبلية والاعتيادية؛ لأنها تخضع كل شيء للنقد، وتضع كل شيء موضع تساؤل. ومن ثمة يتبين أن قيمة الفلسفة لا يمكن حصرها في جانب معين، إنها تظهر بقدر ما تنجح في تحويل الموضوعات إلى قضايا إشكالية.
إذا كانت قيمة الفلسفة كذلك، فمن أين نبدأ التفلسف؟ يؤكد إدموند هوسرل E. Husserl أن التفلسف يبدأ بالرجوع إلى الذات قصد تحطيم المعارف المسلم بها والجاهزة، والتي يمكنها أن تكون عائقا إببستيمولوجيا في بلوغ الحقيقة. فعلى الفيلسوف أن ينشئ فلسفة خاصة، قائمة على حدوسه المطلقة، وعلى أسس حجاجية وبرهانية ومنهجية.
وعليه كذلك أن ينزع بفلسفته نحو الكونية. لكن عليه أن يتحلى دائما بالتواضع المعرفي، وأن يؤمن باستمرار بحاجته إلى طلب المزيد من المعرفة. من هذا المنطلق يكون الشك المنهجي – الذي أسسه ديكارت – أسوة لكل فيلسوف مبتدئ، وبهذه الطريقة وحدها تولد الفلسفة.
من خلال ما تقدم، يمكن أن نستشف، أن صعوبة تعريف الفلسفة لا تعني بالضرورة، أن الفلسفة فكر متعال عن الواقع، أو فكر يصعب إدراكه وتمثله. إنما يعني ذلك فقط أن للفلسفة بعض الخصوصيات التي تميزها عن غيرها،وهذه الخصوصيات يمكن اعتبارها في ذات الوقت آليات مشتركة بين سائر الفلاسفة. ويمكن تلخيص بعضها إجمالا في ما يلي:
النسقية: إن مفهوم النسق يفيد النظام والتأليف، ويشير إلى وجود منظومة من العناصر. ومن هذا المنطلق، نقول إن الفلسفة ليست فكرا مرتجلا، وليست شطحات فكرية لا يعرف مصدرها، وليست شذرات من الآراء من هنا وهنالك؛ وإنما هي تفكير منظم، وبنية من الأفكار والنظريات. فقد يتناول الفيلسوف موضوعات متعددة، كالوجود، والمعرفة، والقيم، لكن هذا لا يمنع من اتسام فلسفته بالنظام والتدرج، ولاحتكام إلى صرامة منطقية.
العقلانية والتأمل: إن الفلسفة فكر عقلاني تأملي باعتبارها فكرا بعيدا عن الارتجال، وخصوصا لأن العقل وحده يستطيع أن يبحث في القضايا ذات الطبيعة الفلسفية. كما أن الفلسفة تفكير عميق يبتعد عن العواطف الوجدانية حيث يقول هيدغر Heidegger: "فالعواطف، لا تنتمي إلى الفلسفة، والعواطف، كما يقال، هي شيء لا عقلي. والفلسفة، على العكس من ذلك، ليست شيئا عقليا فحسب، بل المدبر الحقيقي للعقل."
الشمولية: إن الفلسفة - على خلاف العلم – تترفع عن الجزئيات، حيث لا تهتم إلا بالقضايا الأكثر عمومية، وتتسم بالتناول الكلي للموضوعات..
التجريد: قد تكون الفلسفة وليدة واقع معين، لكنها تحتفظ لنفسها بالمقاربة التجريدية،لأنها ابتعاد عن الارتباط العضوي والمباشر بالمحسوس والجزئي، خصوصا وأنها تسعى إلى بناء معارف ذات طابع شمولي وعام.
النقد: إن الفلسفة فكر نقدي لأنها إعادة نظر متواصلة، خصوصا وأنها لا تؤمن بوجود معارف ثابتة ومطلقة. كما أنها تجاوز للاعتقادات الساذجة والبديهية. لذا تتسم بالشك القبلي في وجود معرفة نهائية.
التساؤل: إن الفلسفة فكر تساؤلي باعتبارها فكرا إشكاليا نقديا. فالتفكير الفلسفي يجعل من كل شيء موضوع تساؤل ومناقشة وسجال. لذا قال كارل ياسبرس Jaspers : "الأسئلة في الفلسفة أهم من الإجابات عليها، وكل جواب يصبح بدوره سؤالا جديدا".
إن الخاصية الأخيرة تدفعنا إلى أن نتساءل : ما هي طبيعة السؤال الفلسفي؟ وما هي خصوصياته؟
يحددها ألان جورانفيل A.Juraville في ما يلي:
(ا) إن السؤال الفلسفي سؤال قصدي، لأنه يروم بناء معرفة تتسم بالشمولية والإطلاقية.
(ب) إن السؤال الفلسفي سؤال يتضمن شكا قبليا في الجواب، على اعتبار أن ليست هناك معرفة جاهزة ونهائية.
(ج) إن السؤال الفلسفي يوجه بالخصوص إلى أولئك الذين يعتقدون امتلاك الحقيقة (سلوك سقراط مثلا)، ليظهر لهم دونية معرفتهم. فالفلسفة فكر يجند نفسه ضد الوثوقية (الدوغمائية).
(د) إن السؤال الفلسفي تساؤل، باعتباره سؤالا يتضمن في الواقع سلسلة متدرجة من الأسئلة: فكل سؤال يستدعي سؤالا آخر؛ وكل سؤال هو بداية لتساؤل جديد (كارل ياسبرس).
إن طبيعة السؤال تتحدد وترتبط بطبيعة الجواب ، وتفسر لماذا تتعدد الخطابات الفلسفية. إن السؤال الفلسفي – في العمق – ليس إلا إشعارا بحدوث الدهشة لدى المتسائل. وكما قال أرسطو : " إن الدهشة هي التي دفعت الناس إلى التفلسف". فالإنسان هو أكثر الموجودات دهشة، لأن الدهشة تتطلب درجة عالية من العقل. إلا أن هناك اختلافا بين "الدهشة العلمية" و"الدهشة الفلسفية" ؛ فكما يرى شوبنهاور Schopenhauer : دهشة الفيلسوف هي دهشة أمام الأمور الاعتيادية والتي تكتسي حلة البداهة، وهي دهشة أمام الأشياء ذات الصبغة الأكثر عمومية، وجعلها موضوع التساؤل، وتحويلها إلى قضايا إشكالية. أما دهشة العالم، فهي دهشة أمام أمور جزئية نادرة ومنتقاة، وهي سعي لربطها بقضايا معروفة لديه سابقا، أو بتعبير أدق هي إرجاع المجهول إلى المعلوم.
وما دامت هناك أمور تؤلم الإنسان كالمرض والموت، والبؤس، والشقاء.. وما دام الوجود الإنساني ووجود العالم يشكلان لغزا محيرا فستستمر الدهشة الفلسفية وسيستمر التفلسف.
الفلـسفة والحيـاة
إن الفلسفة شأنها شأن أشكال الوعي البشري، فهي لصيقة بقضايا المجتمع وهموم العصر الذي أفرزها ؛ وقد قال ماركس Marx في هذا الصدد : "ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل إن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم".
إن الفلسفة – إذن – ليست فكرا مستلبا أو متعاليا عن الواقع الاجتماعي وإنما هي خلاصة عصرها، وتاريخ الفلسفة حافل بالنماذج التي تؤكد ذلك: إن تفكير أفلاطون في "مدينة مثالية" (كتاب الجمهورية) لم يكن إلا محاولة منه لإصلاح المجتمع اليوناني الذي أفسده السفسطائيون. وما تفكير الفارابي في "مدينة فاضلة" إلا محاولة لإرجاع الدولة الإسلامية إلى أمجادها البائدة.
لكن الفلسفة تختلف عن السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا. لأنها ليست دراسة علمية موضوعية لقضايا مجتمع معين ؛ وليست مجرد تشخيص لبعض الأمراض الاجتماعية. إن الطابع العام والشمولي للفلسفة يأبى ذلك. إنها لا تدرس ما هو كائن إلا في إطار ما ينبغي أن يكون. إن طموح الفيلسوف إلى تحقيق الكونية يجعله يترفع عن أن يصبح مجرد مصلح اجتماعي، أو أن يكون على الأكثر عالما اجتماعيا فرضته ظرفية تاريخية. فما هو السبب – إذن – في اهتمام الفيلسوف بقضايا الحياة والمجتمع؟
يكمن جواب ذلك في عاملين متداخلين، أولهما أن الفلسفة بحث عن الحقيقة ؛ والأجوبة التي تقترحها، تبين أنها فحص مثابر وراء الإسهام المباشر في حل المشاكل الإنسانية مهما كانت فرص النجاح ضعيفة. وهنا يبزغ العامل الثاني، والذي يتجلى في الأهمية القصوى التي توليها الفلسفة للإنسان وتعتبره مركز اهتماماتها، حيث لا تهتم بالقضايا إلا بقدر ما ترتبط بالإنسان، لذا قال فيورباخ L. Feurbach إن كل فلسفة تؤسس خارج الإنسان وبمعزل عنه لا يمكن اعتبارها فلسفة..
انطلاقا مما تقدم نطرح السؤال التالي : هل الفلسفة إلزام أم إلتزام؟ يقول ديكارت : "لأن يحيى المرء بدون تفلسف هو حقا كمن يظل مغمضا عينيه لا يحاول أن يفتحهما: والتلذذ برؤية كل ما سيكشفه البصر لا يمكن أن يقارن بالرضى الذي ينال من معرفة الأشياء التي تنكشف لنا بالفلسفة". يتأكد إذن – من خلال هذا القول- أن الفلسفة ليست ترفا فكريا وإنما هي ضرورة. ولعل ضرورتها تتجلى في الانسياب الفكري الذي تطلبه؛ وفي رفضها كل حدود للعقل. إن الطابع الإشكالي والنقدي للفلسفة يحتمان عليها إعادة النظر في كل شيء، وفي كل قضايا الحياة، وبالتالي إخضاعها للمساءلة.
والفلسفة، كذلك، التزام لأنها اندماج وانصهار في كل ما من شأنه أن يساهم في سيرورة الحياة، وبالتالي الانطلاق بها إلى فضاء أرحب وأوسع. ومن هذا المنطلق نفهم لماذا تتجند الفلسفة ضد جميع ضروب العنف محاولة منها نشر ثقافة التسامح والانفتاح على الغير. لأن العنف يعتبر من المسارات الخسيسة التي بإمكانها أن تجهض حركية الحياة، وتقتضي على طموح الإنسان في بلوغ غايات نبيلة. فالفلسفة تحارب العنف لأنه ليس مجرد سلوك فردي ينحصر في أخذ ثأر أو إنزال عقوبة أو قصاص؛ ولكنها تحاربه لأن العنف – كما يقول إيف ميشو Y. Michaud – يوجد "عندما يحطم واحد أو عدد من الفاعلين شخصا آخر، مباشرة، أو بصفة غير مباشرة، دفعة واحدة أو بالتدريج، أو يمسهم في كيانهم الجسمي أو النفسي، في ممتلكاتهم، أو في انتماءاتهم الثقافية أو الرمزية المختلفة. ليس العنف فقط مسألة جروح أو قتل، إذ يمكن أن يكون التحطيم سيكولوجيا، بواسطة التعذيب أو النفي، أو الإيذاء في الممتلكات، أو يلحق لغة الجماعة، أو ثقافتها أو معتقداتها، أو يعني الحرمان من العمل ..إلخ".
بناء على هذا، نستطيع القول إن الفيلسوف ضد العنف لأنه، كما يعتقد إريك فايل E. Weil، سلوك لا عقلي يهدف إلى النيل من كرامة الإنسان وبالتالي النيل من إنسانيته. إن الفلسفة ضد العنف لأنه يقوم على كل الأفكار السلبية التي تحاربها كالتسلط، والظلم، والبؤس والشقاء والحرمان ..إلخ.
وعلى الفلسفة أن تتنبه للعنف لأن خطورته، اليوم، تكمن في أنه سلوك ممنهج يهدف إلى إخفاء أبعاده وخلفياته وبالتالي إخفاء أساليبه وآلياته، أو كما يقول إيف ميشو : "… إن ما يميز العنف المعاصر عن أشكال العنف التي عرفها التاريخ، هو التدخل المزدوج للتكنولوجيا والعقلنة في إنتاجه". ولعل ذلك ما يجعلنا نقول إن العنف أصبح اليوم سلوكا لا عقليا أنتجه العقل.
بعد أن بحثنا في ماهية الفلسفة، وبعد أن تعرفنا عن العلاقة الفيلسوف بالحياة والمجتمع، يتاح لنا الآن أن نتعرف عن شخصية الفيلسوف. فمن هو الفيلسوف؟ وما طبيعة شخصيته؟
إنه لايمكن أن نتمثل صورة الفيلسوف خارج خصوصيات الفلسفة. ومع ذلك نؤكد أن الفيلسوف إنسان دائب التساؤل، نظرا لوجود عوامل عدة ومختلفة. فالفيلسوف إنسان يشعر دائما بفقر إلى المزيد من المعرفة. ولا غرابة في ذلك فأول من أطلق على نفسه فيلسوف كان يقصد هذا بالضبط : حيث رفض فيتاغورس أن يدعى حكيما لأن الحكمة تعني امتلاك الحقيقة، فارتأى أن التعبير الأنسب والأصدق هو أن يقال عنه إنه فيلسوف (محب الحكمة)، أي مجرد إنسان يتوق إلى المعرفة وليس مالكا لها. ومن هذا المنطلق نستطيع أن نفهم سلوك سقراط من وجهين: فإحساسه بدونية معرفته جعله يرحل إلى رجال الدولة والشعراء ..، باحثا عن الحقيقة، لكن الوجه الثاني للصورة يتجلى في أن سقراط ذهب إليهم بشك قبلي ليحطم عندهم ذلك الاعتقاد الدوغمائي بامتلاك الحقيقة، وهذا فعلا ما توصل إليه سقراط حينما وجد أن دونية معرفته تفوق بكثير معرفتهم.
فالفيلسوف، إذا، شخصية لا تكتفي بالإجابات الارتجالية والسطحية والساذجة. إنه إنسان يرفض الاعتقاد بوجود أفكار جاهزة ومعارف مسلم بها. إنه، كذلك، رجل سجال ونقد، رجل إقناع واقتناع، يقارع الحجة بالحجة، علما بأنه يؤمن بالاختلاف. ومن ثمة فإنه ضد جميع أشكال العنف؛ خصوصا الإرهاب الفكري الذي يمارسه كل متسلط دوغمائي، علاوة على أصناف القهر الجسدية والنفسية. هكذا نجد ماركس – مثلا – جند نفسه لمحاربة الاستغلال الطبقي، ونجد فلاسفة الأنوار جندوا أنفسهم لمحاربة هيمنة الكنيسة، وتسلط طبقة النبلاء.
إن الفيلسوف إنسان ملتزم بقضايا عصره، وبهموم المجتمع، وبرغبة الإنسان الدائمة نحو الحرية والانعتاق. وهذا ما يحطم الاعتقاد الساذج، والشائع، الذي يصور الفيلسوف في صورة إنسان زاهد في الحياة، وبالتالي إنسان يعيش على هامش المجتمع.
صحيح أن للفيلسوف آراء خاصة، وقناعات متميزة بفردانية أكيدة، وهذا راجع إلى طبيعة التفكير الفلسفي الذي يتخذ شكل تمثلات خاصة ؛ إلا أن الفيلسوف إنسان صادق مع نفسه أولا، وصادق مع الآخرين ثانيا. وصدقه هو الذي يجعله ينزع بأفكاره نحو الكونية، فيدعو الناس إلى مشاطرته أفكاره. وسعادة الفيلسوف المثلى تتجلى في الوصول إلى المعرفة لذاتها، أي أنه يحاول باستمرار أن يتخلص من البعد الدوغمائي للمعرفة.
رهـانات الفلسـفة
إن النظرة البرغمائية إلى العلم قد تحجب عنا أهمية الفلسفة. حيث يبدو أنه كلما تقدم العلم، إلا وأحكم الإنسان سيطرته على الطبيعة، وكلما تقدم العلم إلا وصاحبه تقدم تكنولوجي ملحوظ، يساهم، بدوره، في إدخال الرفاهية على حياة الإنسان. فكيف تستطيع – إذن – أن تحتفظ الفلسفة بمكانتها كفكر ضروري؟
إن الفلسفة تراهن على طبيعة المواضيع التي تعالجها، خصوصا تلك التي يصبح فيها العلم عاجزا عن تقديم نتائج. وتراهن كذلك على أزمات العلم الداخلية (التي عرفها – ويعرفها – ابتداء من القرن 19) والتي تؤكد حاجة العلم ذاته إلى تدخل الفلسفة قصد فهم وتفسير، ومعالجة مشاكله، وإشكالياته الإبستيمولوجية. كما أن العلم – دون الفلسفة – يتحول إلى تكنولوجيا مدمرة، وإلى فكر دوغمائي لا يراعي القيم الأخلاقية، والاعتبارات الإنسانية (ظاهرة الاستنساخ مثلا).
كما تراهن الفلسفة على الانعكاسات السلبية للتقدم التكنولوجي. ونذكر منها – على سبيل المثال – وضعية الاستلاب التي يعرفها لإنسان داخل عملية الإنتاج. أضف، إلى ذلك تشيؤ العلاقات الإنسانية: فلإنسان أصبح داخل علاقات الإنتاج – المرتكزة على المردودية فقط – يعيش وضعية استلاب لا تراعى فيها إنسانيته لأنه أصبح مجرد أداة مسخرة للرفع من وتيرة الإنتاج وجودته، وممكن الاستغناء عنه في أي وقت. فأصبح الإنسان مجرد شيء، يقيم (بفتح الياء الثانية) في إطار علاقاته بأشياء أخرى ( الآلات، المعامل، الأبناك، البورصة ..إلخ).
إن الفلسفة إزاء هذا، يمكن أن تنبه إلى كارثة ، أو تقدم حلولا قد لا تفهم في حينها نظرا لطابعها الكوني والشمولي؛ فتراهن في مقابل ذلك على الزمن والتاريخ اللذين يؤكدان مصداقية أفكارها. كما تراهن الفلسفة في تطورها، على تأثيث نفسها من الداخل، من خلال طرحها الدائم للسؤال "ما هي الفلسفة ؟" حتى تتلاءم تمثلاتها مع قضايا المجتمع، وسعيا منها إلى الحفاظ على إنسانية الإنسان والدفاع عن كرامته.[/size]