كيفية نزول القرآن الكريم
جمع القرآن الكريم
جمع القرآن في العهد النبوي
شرَّف الله أمة الإسلام بخصيصة لم تكن لأحد غيرهم، وهي حفظهم لكتاب ربهم عن ظهر قلب. وكان من أسباب حفظ الله لكتابه أن وفَّق هذه الأمة إلى حفظ قرآنها واستظهاره .
وقد تظاهرت الأدلة من السنة على فضل حفظ القرآن واستظهاره. وكان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يحث أصحابه على حفظ ما ينزل عليه من القرآن، فكان الصحابة يحفظونه بسماعه منه صلى الله عليه وسلم، فهذه أم هشام رضي الله عنها تروي كيف أنها حفظت سورة { ق } من رسول لله صلى الله عليه وسلم، فتقول: ( كان تنورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً سنتين، وما أخذتُ { ق والقرآن المجيد } إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ) رواه مسلم .
وكان من حرصه صلى الله عليه وسلم على تعليم صحابته للقرآن وحفظهم له أنه كان يتعاهد كل من يلتحق بدار الإسلام فيدفعه إلى من يعلمه القرآن، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُشغَل، فإذا قَدِمَ رجل مهاجر على رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن " رواه أحمد .
وقد حفظ القرآن الكريم جَمَعٌ من الصحابة يصعب حصرهم، عُرف منهم الخلفاء الراشدون، وطلحة، وسعد، وابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأبو موسى الأشعري، وسالم مولى أبي حذيفة، وعبد الله بن عمر، وغيرهم كثير. وفي حديث قتادة قال: قلت لأنس من جَمَع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أربعة كلهم من الأنصار: أُبي بن كعب، ومعاذ، وزيد بن ثابت، ورجل من الأنصار، يُكنى أبا زيد. متفق عليه .
ومن الصحابيات اللاتي جمعن القرآن أم ورقة رضي الله عنها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرها أن تؤمَّ أهل دارها. والحديث في "مسند" أحمد .
وكان من مزيد عناية النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالقرآن أن اعنتوا بكتابته وتدوينه، كي يكون ذلك حصناً ثانياً لحمايته من الضياع والتغيير. فبعد أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بحفظ القرآن في صدورهم طلب منهم حفظه في السطور، ونهى في بداية الأمر عن كتابة شيء غير القرآن حتى لا يلتبس بغيره من الكلام .
ففي "صحيح مسلم" من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه ) قال النووي في توجيه ذلك: وكان النهي حين خيف اختلاطه بالقرآن، فلما أمن ذلك أذن في الكتابة. وقال ابن حجر: إن النهي خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه بغيره .
وقد بلغ من عناية النبي صلى الله عليه وسلم بتدوين القرآن أنه كان إذا نزل عليه شيء من القرآن دعا أحد كُتَّابه، وأمره بكتابة ما نزل عليه، ففي الحديث عن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } (النساء:95) فجاءه ابن أم مكتوم وهو يُمِلُّها عليه. متفق عليه .
وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعملون في كتابة القرآن ما تيسر لهم وما توفر في بيئتهم من أدوات لذلك، فكانوا يستعملون الجلود والعظام والألواح والحجارة ونحوها، كأدوات للكتابة، فعن البراء رضي الله عنه قال: ( لما نزلت: { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } قال النبي صلى الله عليه وسلم: ادعُ لي زيداً، وليجئ باللوح والدواة والكتف، ثم قال اكتب ) رواه البخاري. وفي حديث زيد عندما أمره أبو بكر رضي الله عنه بجمع القرآن قال: ( فتتبعتُ القرآن أجمعه من العسب واللحاف والأضلاع والأقتاب ) رواه البخاري. والعسب: جريد النخيل. واللحاف: صفائح الحجارة. والأقتاب: الخشب الذي يوضع على ظهر البعير .
هذه الآثار وغيرها تدلنا على عظيم بلاء الصحابة رضي الله عنهم في كتابة القرآن، وما تحملوه من المشاق لتدوينه والحفاظ عليه. وبقي القرآن مكتوباً على هذه الأشياء محفوظاً عند النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولم يجمع في صحف أو مصاحف في عهده صلى الله عليه وسلم. قال القسطلاني: وقد كان القرآن كله مكتوباً في عهده صلى الله عليه وسلم، غير مجموع في موضع واحد، ولا مرتب السور، وقُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وحال كتابة القرآن على ما ذكرنا .
ولسائل أن يسأل: لماذا لم يَجمع النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في مصحف واحد كما فعل أبو بكر وعثمان فيما بعد؟ وقد أجاب العلماء أن مرد ذلك كان لاعتبارات عدة منها ما يأتي:
- أنه لم يوجد من دواعي كتابته مجموعاً في مصحف مثل واحد ما وجد على عهد أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما .
- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بصدد أن ينزل عليه من الوحي ما قد يكون ناسخاً لبعض آيات القرآن .
- أن القرآن لم ينزل جملة واحدة بل نزَّل مفرقاً، ولم يكن ترتيب الآيات والسور على ترتيب النزول، ولو جُمِعَ القرآن في مصحف واحد وقتئذ لكان عرضة للتغير المصاحف كلها كلما نزلت آية أو سورة .
ومن المسائل التي بحثها العلماء هنا مسألة ترتيب الآيات في السورة، ومسألة ترتيب سور القرآن في المصحف، وحاصل القول في المسألة الأولى، أن الإجماع منعقد على أن ترتيب الآيات في السورة كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا مجال للرأي والاجتهاد فيه، ولم يُعلم مخالف لذلك، والنصوص الدالة على ذلك كثيرة سبق أن ذكرنا بعضاً منها، ونضيف هنا حديث ابن الزبير رضي الله عنه قال: ( قلت لعثمان: هذه الآية التي في البقرة { والذين يُتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج } (البقرة:240) قد نسختها الآية الأخرى، فَلِمَ تكتبها، قال: يا ابن أخي، لا أغيِّرُ شيئاً منه في مكانه ) رواه البخاري .
أما ترتيب السور، فالقول الأرجح عند أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم فوَّض أمره إلى أمته من بعده، يعني أن هذا الترتيب فعله الصحابة رضي الله عنهم .
وبعد، فهذا جملة القول في مسألة جمع القرآن في عهده صلى الله عليه وسلم، ومنه يتبيَّن أن القرآن قد دُوِّن في عهده صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك ردٌّ على من زعم أن القرآن لم يدون في عهده صلى الله عليه وسلم.
جمع القرآن في عهد أبي بكر
توفي النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم لم يُجمع في مصحف واحد مكتوب، وإنما كان متفرقاً في الصدور والألواح ونحوها من وسائل الكتابة، حيث لم تكن ثمة دواع في حياته صلى الله عليه وسلم استدعت جمع القرآن في مصحف واحد .
وبعد أن تولى أبو بكر رضي الله عنه الخلافة كان هناك من الأسباب والبواعث، التي دفعت الصحابة رضي الله عنهم إلى القيام بجمع القرآن في الصحف .
وكان من أولى تلك الدوافع لحوق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، الذي ترتب عليه انقطاع الوحي، فكان ذاك المصاب الجَلَل من البواعث المهمة التي دفعت الصحابة لجمع القرآن .
ثم كانت واقعة اليمامة التي قُتل فيها عدد كبير من الصحابة، وكان من بينهم عدد كبير من القراء، مما دفع عمر رضي الله عنه إلى أن يذهب إلى أبي بكر ويطلب منه الإسراع في جمع القرآن وتدوينه، حتى لا يذهب القرآن بذهاب حفاظه. وهذا الذي فعله أبو بكر رضي الله عنه، بعد أن تردد في البداية في أن يعمل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن وقعة اليمامة كانت من أهم الأحداث التي حملت الصحابة على تدوين القرآن، وحفظه في المصاحف .
وقد دلت عامة الروايات على أن أول من أمر بجمع القرآن من الصحابة، أبو بكر رضي الله عنه عن مشورة من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأن الذي قام بهذا الجمع زيد بن ثابت رضي الله عنه، فقد روى البخاري في "صحيحه" عن زيد رضي الله عنه أنه قال: أرسل إليَّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحرَّ - أي اشتد وكثر - يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحرَّ القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن، إلا إن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن، قال أبو بكر: قلت لعمر كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله صدري، ورأيت الذي رأى عمر. قال زيد: وعمر عنده جالس لا يتكلم، فقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتَتَبع القرآن فاجمعه. فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلان شيئاً لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو بكر: هو والله خير، فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر، فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعُسب وصدور الرجال…وكانت الصحف التي جُمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر. رواه البخاري .
والذي عليه أكثر أهل العلم أن أولية أبي بكر رضي عنه في جمع القرآن أولية خاصة، إذ قد كان للصحابة مصاحف كتبوا فيها القرآن أو بعضه، قبل جمع أبي بكر، إلا أن تلك الجهود كانت أعمالاً فردية،لم تظفر بما ظفر به مصحف الصديق من دقة البحث والتحري، ومن الاقتصار على ما لم تنسخ تلاوته، ومن بلوغها حد التواتر، والإجماع عليها من الصحابة، إلى غير ذلك من المزايا التي كانت لمصحف الصديق رضي الله عنه .
ولك أخي الكريم أن تسأل: لماذا وقع اختيار أبي بكر على زيد بن ثابت لجمع القرآن الكريم دون غيره من الصحابة؟ وفي الإجابة نقول: إن مرد ذلك يرجع إلى أسباب منها:
- أنه كان شاباً يافعاً، وهذه الصفات تؤهله للقيام بمثل هذا العمل الصعب، كما أن الشاب لا يكون شديد الاعتداد برأيه، فعند حصول الخلاف يسهل قبوله النصح والتوجيه .
- أن زيداً كان معروفاً بوفرة عقله، وهذا مما يؤهله لإتمام هذه المهمة .
- أن زيداً كان يلي كتابة الوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد شاهد من أحوال القرآن ما لم يشاهده غيره .
- أنه لم يكن متهماً في دينه، فقد كان معروفاً بشدة الورع والأمانة وكمال الخلق والاستقامة في الدين .
- أنه كان حافظاً للقرآن الكريم عن ظهر قلب، وكان حفظه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفق العرضة الأخيرة، فقد رُوي أنه شهد العرضة الأخيرة للقرآن، قال أبو عبد الرحمن السلمي: قرأ زيد بن ثابت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام الذي توفاه الله فيه مرتين، وإنما سُميت هذه القراءة قراءة زيد بن ثابت، لأنه كتبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأها عليه وشهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بها حتى مات، ولذلك اعتمد عليه أبو بكر وعمر في جمع القرآن، وولاه عثمان كتابة المصاحف .
وقد شرع زيد في جمع القرآن من الرقاع واللخاف والعظام والجلود وصدور الرجال، وأشرف عليه وعاونه في ذلك أبو بكر وعمر وكبار الصحابة، فعن عروة بن الزبير قال: لما استحرَّ القتل بالقراء يومئذ، فرِقَ أبو بكر على القرآن أن يضيع - أي خاف عليه - فقال لعمر بن الخطاب وزيد ابن ثابت: اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكم بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه. قال ابن حجر: رجاله ثقات مع انقطاعه .
وبهذه المشاركة من الصحابة أخذ هذا الجمع للقرآن الصفة الإجماعية، حيث اتفق عليه الصحابة، ونال قبولهم كافة، فجُمِعَ القرآن على أكمل وجه وأتمه .
ونختم هذا المقال بما رُوي عن علي رضي الله عنه أنه قال: رحمة الله على أبي بكر، كان أعظم الناس أجراً في جمع المصاحف، وهو أول من جمع بين اللوحين، قال ابن حجر: وإذا تأمل المنصف ما فعله أبو بكر من ذلك جزم بأنه يُعدُّ في فضائله، ويُنوِّه بعظيم منقبته، لثبوت قوله صلى الله عليه وسلم: ( من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ) رواه مسلم. ثم قال: فما جمع أحد بعده إلا كان له مثل أجره إلى يوم القيامة .
وهكذا فإن الله سبحانه قد هيأ لحفظ قرآنه رجالاً حفظوه وحافظوا عليه، تصديقاً لقوله تعالى: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } (الحجر:9) وكان أبو بكر على رأس هؤلاء الرجال الذين اختارهم الله للقيام بهذه المهمة، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا وإياه في مستقر رحمته، إنه سميع الدعاء .
القرآن الكريم نعمة السماء إلى الأرض، وحلقة الوصل بين العباد وخالقهم، نزل به الروح الأمين، على قلب رسوله الكريم بالحق ليكون للعالمين نذيراً، وهادياً ونصيراً، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} النساء: 174
وكيفية نزول القرآن على خير خلق الله محمد صلى الله عليه وسلم من الأمور التي تستوقف المؤمن وتلح عليه بالسؤال، كيف نزل القرآن الكريم، وما هي المراحل التي استغرقها نزوله، وهل نزل جملة واحدة، على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أم نزل على فترات متباعدة. في هذا المقال نحاول أن نتلمس الإجابة عما أثرناه من أسئلة، فنقول:الذي عليه أهل العلم أن القرآن الكريم نزل من عند الله سبحانه وتعالى على قلب رسوله على فترات متقطعة، ولم ينزل عليه جملة واحدة
وقد كان كفار قريش يتشوفون إلى نزوله جملة واحدة، كما أخبر عنهم الله تعالى، فقال:{وقال الذين كفروا لولا نزِّل عليه القرآن جملة واحدة} (الفرقان:32) إلا أن الله سبحانه - وهو أعلم بما هو أوفق لرسالته وأصلح لعباده - أراد أن ينـزل القرآن مفرقاً؛ وذلك لحِكَم متعددة، منها ما ذكره سبحانه في الآية نفسها، فقال: {كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً}(الفرقان:32) فتثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم كان حكمة بالغة من الحِكَم الذي نزل لأجلها القرآن مفرقاً
ومن الآيات التي تبين أن القرآن نزل على نبينا صلى الله عليه وسلم مفرقاً - إضافة للآية السابقة - قوله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} (الإسراء:106) وفي هذه الآية حكمة أخرى من نزول القرآن مفرقاً، وهي نزوله على تمهل؛ ليكون ذلك أدعى إلى فهم من يسمعه ويستمع إليه
أما عن القدر الذي كان ينزل من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فالصحيح الذي دلت عليه الأحاديث أنه كان ينزل على حسب الحاجة أو الواقعة، فقد كان ينـزل عليه خمس آيات أو عشر أو أكثر من ذلك أو أقل، وربما نزل عليه آية واحدة أو بعض آية. وقد صح في الحديث المتفق عليه نزول آيات قصة الإفك جملة واحدة، وهي عشر آيات من قوله تعالى: {إن الذين جاؤوا بالإفك} إلى قوله تعالى{ولولا فضل الله عليكم ورحمة وأن الله رؤوف رحيم} النور:11-20
وصح في الحديث نزول بعض آية عليه صلى الله عليه وسلم، كما ثبت في الصحيح من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: لما نزل قوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} (النساء:95) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً فكبتها، فجاء ابن أم كلثوم فشكا ضرارته، فأنزل الله:{غير أولي الضرر}(النساء:95) رواه البخاري
أما عن كيفيات نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم فقد ذكر العلماء لذلك عدة كيفيات، نذكر منها ما يلي
- أن يأتيه الوحي مثل صلصلة الجرس وهو أشد ما يكون عليه، كما ثبت عند البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي، فقال: (أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال) قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقاً. و"الصلصلة" كل صوت له طنين، وقوله "فيفصم" أي يُقلع وينجلي
- وقد يأتيه الوحي بصورة رجل يلقي إليه كلام الله، كما في الحديث السابق عند البخاري، وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن كيفية الوحي، فقال: (وأحيانا يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول) فإن المَلَك قد تمثل رجلاً في صور كثيرة، ولم ينفلت منه ما أتاه به، كما في قصة مجيئه في صورة دُحية الكلبي وفي صورة أعرابي، وغير ذلك من الصور، وكلها ثابتة في الصحيح
- وقد يأتيه الوحي بطريق كلام الله في اليقظة، كما في حديث الإسراء الطويل، الذي رواه البخاري في "صحيحه" وفيه: (فلما جاوزتُ نادى منادٍ: أمضيتُ فريضتي وخففتُ عن عبادي)
والأمر المهم في هذا السياق، الذي يجب اعتقاده والإيمان به، أن جبريل عليه السلام نزل بألفاظ القرآن المعجزة من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس، وأن تلك الألفاظ هي كلام الله سبحانه، لا مدخل لجبريل ولا لنبينا في إنشائها ولا في ترتيبها، بل هي كما أخبرنا الله عنها بقوله:{كتاب أُحكمت آياته ثم فُصِّلت من لدن حكيم خبير}(هود:1)
فالألفاظ القرآنية المقروءة والمكتوبة هي من عند الله سبحانه، ليس لجبريل فيها سوى نقلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس للرسول فيها سوى وعيها وحفظها وتبليغها ثم بيانها والعمل بها، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ*عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ}(الشعراء:192-194) فالمتكلم هو الله، والناقل هو جبريل، والمتلقي هو رسول رب العالمين، ومن اعتقد غير ذلك، فقد ضل سواء السبيل، نسأله تعالى العصمة والثبات على الحق والاعتصام بكتابه المبين ورسوله الكريم.
وكيفية نزول القرآن على خير خلق الله محمد صلى الله عليه وسلم من الأمور التي تستوقف المؤمن وتلح عليه بالسؤال، كيف نزل القرآن الكريم، وما هي المراحل التي استغرقها نزوله، وهل نزل جملة واحدة، على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أم نزل على فترات متباعدة. في هذا المقال نحاول أن نتلمس الإجابة عما أثرناه من أسئلة، فنقول:الذي عليه أهل العلم أن القرآن الكريم نزل من عند الله سبحانه وتعالى على قلب رسوله على فترات متقطعة، ولم ينزل عليه جملة واحدة
وقد كان كفار قريش يتشوفون إلى نزوله جملة واحدة، كما أخبر عنهم الله تعالى، فقال:{وقال الذين كفروا لولا نزِّل عليه القرآن جملة واحدة} (الفرقان:32) إلا أن الله سبحانه - وهو أعلم بما هو أوفق لرسالته وأصلح لعباده - أراد أن ينـزل القرآن مفرقاً؛ وذلك لحِكَم متعددة، منها ما ذكره سبحانه في الآية نفسها، فقال: {كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً}(الفرقان:32) فتثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم كان حكمة بالغة من الحِكَم الذي نزل لأجلها القرآن مفرقاً
ومن الآيات التي تبين أن القرآن نزل على نبينا صلى الله عليه وسلم مفرقاً - إضافة للآية السابقة - قوله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} (الإسراء:106) وفي هذه الآية حكمة أخرى من نزول القرآن مفرقاً، وهي نزوله على تمهل؛ ليكون ذلك أدعى إلى فهم من يسمعه ويستمع إليه
أما عن القدر الذي كان ينزل من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فالصحيح الذي دلت عليه الأحاديث أنه كان ينزل على حسب الحاجة أو الواقعة، فقد كان ينـزل عليه خمس آيات أو عشر أو أكثر من ذلك أو أقل، وربما نزل عليه آية واحدة أو بعض آية. وقد صح في الحديث المتفق عليه نزول آيات قصة الإفك جملة واحدة، وهي عشر آيات من قوله تعالى: {إن الذين جاؤوا بالإفك} إلى قوله تعالى{ولولا فضل الله عليكم ورحمة وأن الله رؤوف رحيم} النور:11-20
وصح في الحديث نزول بعض آية عليه صلى الله عليه وسلم، كما ثبت في الصحيح من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: لما نزل قوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} (النساء:95) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً فكبتها، فجاء ابن أم كلثوم فشكا ضرارته، فأنزل الله:{غير أولي الضرر}(النساء:95) رواه البخاري
أما عن كيفيات نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم فقد ذكر العلماء لذلك عدة كيفيات، نذكر منها ما يلي
- أن يأتيه الوحي مثل صلصلة الجرس وهو أشد ما يكون عليه، كما ثبت عند البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي، فقال: (أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال) قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقاً. و"الصلصلة" كل صوت له طنين، وقوله "فيفصم" أي يُقلع وينجلي
- وقد يأتيه الوحي بصورة رجل يلقي إليه كلام الله، كما في الحديث السابق عند البخاري، وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن كيفية الوحي، فقال: (وأحيانا يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول) فإن المَلَك قد تمثل رجلاً في صور كثيرة، ولم ينفلت منه ما أتاه به، كما في قصة مجيئه في صورة دُحية الكلبي وفي صورة أعرابي، وغير ذلك من الصور، وكلها ثابتة في الصحيح
- وقد يأتيه الوحي بطريق كلام الله في اليقظة، كما في حديث الإسراء الطويل، الذي رواه البخاري في "صحيحه" وفيه: (فلما جاوزتُ نادى منادٍ: أمضيتُ فريضتي وخففتُ عن عبادي)
والأمر المهم في هذا السياق، الذي يجب اعتقاده والإيمان به، أن جبريل عليه السلام نزل بألفاظ القرآن المعجزة من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس، وأن تلك الألفاظ هي كلام الله سبحانه، لا مدخل لجبريل ولا لنبينا في إنشائها ولا في ترتيبها، بل هي كما أخبرنا الله عنها بقوله:{كتاب أُحكمت آياته ثم فُصِّلت من لدن حكيم خبير}(هود:1)
فالألفاظ القرآنية المقروءة والمكتوبة هي من عند الله سبحانه، ليس لجبريل فيها سوى نقلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس للرسول فيها سوى وعيها وحفظها وتبليغها ثم بيانها والعمل بها، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ*عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ}(الشعراء:192-194) فالمتكلم هو الله، والناقل هو جبريل، والمتلقي هو رسول رب العالمين، ومن اعتقد غير ذلك، فقد ضل سواء السبيل، نسأله تعالى العصمة والثبات على الحق والاعتصام بكتابه المبين ورسوله الكريم.
جمع القرآن الكريم
جمع القرآن في العهد النبوي
شرَّف الله أمة الإسلام بخصيصة لم تكن لأحد غيرهم، وهي حفظهم لكتاب ربهم عن ظهر قلب. وكان من أسباب حفظ الله لكتابه أن وفَّق هذه الأمة إلى حفظ قرآنها واستظهاره .
وقد تظاهرت الأدلة من السنة على فضل حفظ القرآن واستظهاره. وكان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يحث أصحابه على حفظ ما ينزل عليه من القرآن، فكان الصحابة يحفظونه بسماعه منه صلى الله عليه وسلم، فهذه أم هشام رضي الله عنها تروي كيف أنها حفظت سورة { ق } من رسول لله صلى الله عليه وسلم، فتقول: ( كان تنورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً سنتين، وما أخذتُ { ق والقرآن المجيد } إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ) رواه مسلم .
وكان من حرصه صلى الله عليه وسلم على تعليم صحابته للقرآن وحفظهم له أنه كان يتعاهد كل من يلتحق بدار الإسلام فيدفعه إلى من يعلمه القرآن، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُشغَل، فإذا قَدِمَ رجل مهاجر على رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن " رواه أحمد .
وقد حفظ القرآن الكريم جَمَعٌ من الصحابة يصعب حصرهم، عُرف منهم الخلفاء الراشدون، وطلحة، وسعد، وابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأبو موسى الأشعري، وسالم مولى أبي حذيفة، وعبد الله بن عمر، وغيرهم كثير. وفي حديث قتادة قال: قلت لأنس من جَمَع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أربعة كلهم من الأنصار: أُبي بن كعب، ومعاذ، وزيد بن ثابت، ورجل من الأنصار، يُكنى أبا زيد. متفق عليه .
ومن الصحابيات اللاتي جمعن القرآن أم ورقة رضي الله عنها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرها أن تؤمَّ أهل دارها. والحديث في "مسند" أحمد .
وكان من مزيد عناية النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالقرآن أن اعنتوا بكتابته وتدوينه، كي يكون ذلك حصناً ثانياً لحمايته من الضياع والتغيير. فبعد أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بحفظ القرآن في صدورهم طلب منهم حفظه في السطور، ونهى في بداية الأمر عن كتابة شيء غير القرآن حتى لا يلتبس بغيره من الكلام .
ففي "صحيح مسلم" من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه ) قال النووي في توجيه ذلك: وكان النهي حين خيف اختلاطه بالقرآن، فلما أمن ذلك أذن في الكتابة. وقال ابن حجر: إن النهي خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه بغيره .
وقد بلغ من عناية النبي صلى الله عليه وسلم بتدوين القرآن أنه كان إذا نزل عليه شيء من القرآن دعا أحد كُتَّابه، وأمره بكتابة ما نزل عليه، ففي الحديث عن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } (النساء:95) فجاءه ابن أم مكتوم وهو يُمِلُّها عليه. متفق عليه .
وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعملون في كتابة القرآن ما تيسر لهم وما توفر في بيئتهم من أدوات لذلك، فكانوا يستعملون الجلود والعظام والألواح والحجارة ونحوها، كأدوات للكتابة، فعن البراء رضي الله عنه قال: ( لما نزلت: { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } قال النبي صلى الله عليه وسلم: ادعُ لي زيداً، وليجئ باللوح والدواة والكتف، ثم قال اكتب ) رواه البخاري. وفي حديث زيد عندما أمره أبو بكر رضي الله عنه بجمع القرآن قال: ( فتتبعتُ القرآن أجمعه من العسب واللحاف والأضلاع والأقتاب ) رواه البخاري. والعسب: جريد النخيل. واللحاف: صفائح الحجارة. والأقتاب: الخشب الذي يوضع على ظهر البعير .
هذه الآثار وغيرها تدلنا على عظيم بلاء الصحابة رضي الله عنهم في كتابة القرآن، وما تحملوه من المشاق لتدوينه والحفاظ عليه. وبقي القرآن مكتوباً على هذه الأشياء محفوظاً عند النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولم يجمع في صحف أو مصاحف في عهده صلى الله عليه وسلم. قال القسطلاني: وقد كان القرآن كله مكتوباً في عهده صلى الله عليه وسلم، غير مجموع في موضع واحد، ولا مرتب السور، وقُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وحال كتابة القرآن على ما ذكرنا .
ولسائل أن يسأل: لماذا لم يَجمع النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في مصحف واحد كما فعل أبو بكر وعثمان فيما بعد؟ وقد أجاب العلماء أن مرد ذلك كان لاعتبارات عدة منها ما يأتي:
- أنه لم يوجد من دواعي كتابته مجموعاً في مصحف مثل واحد ما وجد على عهد أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما .
- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بصدد أن ينزل عليه من الوحي ما قد يكون ناسخاً لبعض آيات القرآن .
- أن القرآن لم ينزل جملة واحدة بل نزَّل مفرقاً، ولم يكن ترتيب الآيات والسور على ترتيب النزول، ولو جُمِعَ القرآن في مصحف واحد وقتئذ لكان عرضة للتغير المصاحف كلها كلما نزلت آية أو سورة .
ومن المسائل التي بحثها العلماء هنا مسألة ترتيب الآيات في السورة، ومسألة ترتيب سور القرآن في المصحف، وحاصل القول في المسألة الأولى، أن الإجماع منعقد على أن ترتيب الآيات في السورة كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا مجال للرأي والاجتهاد فيه، ولم يُعلم مخالف لذلك، والنصوص الدالة على ذلك كثيرة سبق أن ذكرنا بعضاً منها، ونضيف هنا حديث ابن الزبير رضي الله عنه قال: ( قلت لعثمان: هذه الآية التي في البقرة { والذين يُتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج } (البقرة:240) قد نسختها الآية الأخرى، فَلِمَ تكتبها، قال: يا ابن أخي، لا أغيِّرُ شيئاً منه في مكانه ) رواه البخاري .
أما ترتيب السور، فالقول الأرجح عند أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم فوَّض أمره إلى أمته من بعده، يعني أن هذا الترتيب فعله الصحابة رضي الله عنهم .
وبعد، فهذا جملة القول في مسألة جمع القرآن في عهده صلى الله عليه وسلم، ومنه يتبيَّن أن القرآن قد دُوِّن في عهده صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك ردٌّ على من زعم أن القرآن لم يدون في عهده صلى الله عليه وسلم.
جمع القرآن في عهد أبي بكر
توفي النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم لم يُجمع في مصحف واحد مكتوب، وإنما كان متفرقاً في الصدور والألواح ونحوها من وسائل الكتابة، حيث لم تكن ثمة دواع في حياته صلى الله عليه وسلم استدعت جمع القرآن في مصحف واحد .
وبعد أن تولى أبو بكر رضي الله عنه الخلافة كان هناك من الأسباب والبواعث، التي دفعت الصحابة رضي الله عنهم إلى القيام بجمع القرآن في الصحف .
وكان من أولى تلك الدوافع لحوق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، الذي ترتب عليه انقطاع الوحي، فكان ذاك المصاب الجَلَل من البواعث المهمة التي دفعت الصحابة لجمع القرآن .
ثم كانت واقعة اليمامة التي قُتل فيها عدد كبير من الصحابة، وكان من بينهم عدد كبير من القراء، مما دفع عمر رضي الله عنه إلى أن يذهب إلى أبي بكر ويطلب منه الإسراع في جمع القرآن وتدوينه، حتى لا يذهب القرآن بذهاب حفاظه. وهذا الذي فعله أبو بكر رضي الله عنه، بعد أن تردد في البداية في أن يعمل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن وقعة اليمامة كانت من أهم الأحداث التي حملت الصحابة على تدوين القرآن، وحفظه في المصاحف .
وقد دلت عامة الروايات على أن أول من أمر بجمع القرآن من الصحابة، أبو بكر رضي الله عنه عن مشورة من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأن الذي قام بهذا الجمع زيد بن ثابت رضي الله عنه، فقد روى البخاري في "صحيحه" عن زيد رضي الله عنه أنه قال: أرسل إليَّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحرَّ - أي اشتد وكثر - يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحرَّ القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن، إلا إن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن، قال أبو بكر: قلت لعمر كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله صدري، ورأيت الذي رأى عمر. قال زيد: وعمر عنده جالس لا يتكلم، فقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتَتَبع القرآن فاجمعه. فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلان شيئاً لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو بكر: هو والله خير، فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر، فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعُسب وصدور الرجال…وكانت الصحف التي جُمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر. رواه البخاري .
والذي عليه أكثر أهل العلم أن أولية أبي بكر رضي عنه في جمع القرآن أولية خاصة، إذ قد كان للصحابة مصاحف كتبوا فيها القرآن أو بعضه، قبل جمع أبي بكر، إلا أن تلك الجهود كانت أعمالاً فردية،لم تظفر بما ظفر به مصحف الصديق من دقة البحث والتحري، ومن الاقتصار على ما لم تنسخ تلاوته، ومن بلوغها حد التواتر، والإجماع عليها من الصحابة، إلى غير ذلك من المزايا التي كانت لمصحف الصديق رضي الله عنه .
ولك أخي الكريم أن تسأل: لماذا وقع اختيار أبي بكر على زيد بن ثابت لجمع القرآن الكريم دون غيره من الصحابة؟ وفي الإجابة نقول: إن مرد ذلك يرجع إلى أسباب منها:
- أنه كان شاباً يافعاً، وهذه الصفات تؤهله للقيام بمثل هذا العمل الصعب، كما أن الشاب لا يكون شديد الاعتداد برأيه، فعند حصول الخلاف يسهل قبوله النصح والتوجيه .
- أن زيداً كان معروفاً بوفرة عقله، وهذا مما يؤهله لإتمام هذه المهمة .
- أن زيداً كان يلي كتابة الوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد شاهد من أحوال القرآن ما لم يشاهده غيره .
- أنه لم يكن متهماً في دينه، فقد كان معروفاً بشدة الورع والأمانة وكمال الخلق والاستقامة في الدين .
- أنه كان حافظاً للقرآن الكريم عن ظهر قلب، وكان حفظه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفق العرضة الأخيرة، فقد رُوي أنه شهد العرضة الأخيرة للقرآن، قال أبو عبد الرحمن السلمي: قرأ زيد بن ثابت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام الذي توفاه الله فيه مرتين، وإنما سُميت هذه القراءة قراءة زيد بن ثابت، لأنه كتبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأها عليه وشهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بها حتى مات، ولذلك اعتمد عليه أبو بكر وعمر في جمع القرآن، وولاه عثمان كتابة المصاحف .
وقد شرع زيد في جمع القرآن من الرقاع واللخاف والعظام والجلود وصدور الرجال، وأشرف عليه وعاونه في ذلك أبو بكر وعمر وكبار الصحابة، فعن عروة بن الزبير قال: لما استحرَّ القتل بالقراء يومئذ، فرِقَ أبو بكر على القرآن أن يضيع - أي خاف عليه - فقال لعمر بن الخطاب وزيد ابن ثابت: اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكم بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه. قال ابن حجر: رجاله ثقات مع انقطاعه .
وبهذه المشاركة من الصحابة أخذ هذا الجمع للقرآن الصفة الإجماعية، حيث اتفق عليه الصحابة، ونال قبولهم كافة، فجُمِعَ القرآن على أكمل وجه وأتمه .
ونختم هذا المقال بما رُوي عن علي رضي الله عنه أنه قال: رحمة الله على أبي بكر، كان أعظم الناس أجراً في جمع المصاحف، وهو أول من جمع بين اللوحين، قال ابن حجر: وإذا تأمل المنصف ما فعله أبو بكر من ذلك جزم بأنه يُعدُّ في فضائله، ويُنوِّه بعظيم منقبته، لثبوت قوله صلى الله عليه وسلم: ( من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ) رواه مسلم. ثم قال: فما جمع أحد بعده إلا كان له مثل أجره إلى يوم القيامة .
وهكذا فإن الله سبحانه قد هيأ لحفظ قرآنه رجالاً حفظوه وحافظوا عليه، تصديقاً لقوله تعالى: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } (الحجر:9) وكان أبو بكر على رأس هؤلاء الرجال الذين اختارهم الله للقيام بهذه المهمة، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا وإياه في مستقر رحمته، إنه سميع الدعاء .
]